ملحمة الخلق البابلية

ملحمة الخلق البابليه اينوما ايليش (عندما في الأعالي)
تتضح أفكار البابليين في الخلق و التكوين، شكلها الأكمل في ملحمة التكوين البابلية المعروفة باسم ” الإينوما ايليش”، و تعتبر هذه الملحمة إلي جانب ملحمة جلجامش من أجمل و أقدم الملاحم في العالم القديم فتاريخ كتابتها يعود إلي مطلع الألف الثاني قبل الميلاد. أي قبل ألف و خمسمائة سنة تقريباً من كتابة إلياذة هوميروس ، و تدوين أسفار التوراة العبرية. و قد لقيت الكثير من الاهتمام و الدراسة ، من قبل علماء المسماريات و الإنتروبولوجيا و الميثولوجيا و الثيولوجيا.
فإلي جانب الشكل الشعري الجميل الذي صيغت فيه الملحمة، و الذي يعطينا نموذجاً لأدب إنساني متطور، فإنها تقدم لنا وثيقة هامة عن معتقدات البابليين ، و نشأة آلهتهم و وظائفها و علاقاتها.
وُجدت الملحمة موزعة علي سبعة ألواح فخارية ، أثناء الحفريات التي كشفت عن قصر الملك آشور بانيبال ، و مكتبته التي احتوت علي مئات الألواح في شتي الموضوعات الأدبية و الدينية و القانونية و ما إليها. و قد جري الكشف عن ألواح الملحمة تباعاً ، منذ نهاية القرن الماضي و حتى نهاية الربع الأول من القرن الحالي، حيث اكتملت وصارت واضحة و ميسرة للترجمة و الدراسة.
و اسم الملحمة مأخوذ ، كما هي عادة السومريين و البابليين ، من الكلمات الافتتاحية للنص فإينوما ايليش ، تعني : عندما في الأعالي . فعندما في الأعالي لم يكن هناك سماء ، و في الأسفل لم يكن هناك أرض . لم يكن في الوجود سوي المياه الأولي ممثلة في ثلاثة آلهة : “آبسو” و”تعامة(تيامات)” و”ممو”. فأبسو هو الماء العذب ، و تعامة(تيامات) زوجته هي الماء المالح ، أما ممو ،فهو الضباب المنتشر فوق تلك المياه و الموجات المتلاطمه و الناشئ عنها . هذه الكتلة المائية الأولي كانت تملأ الكون و هي الركيزه الأولى الذي انبثقت منها فيما بعد بقية الآلهة و الموجودات ، وكانت آلهتها الثلاثة تعيش في حالة سرمدية من السكون و الصمت المطلق ، ممتزجة ببعضها البعض في حالة هيولية , لا تمايز فيها و لا تشكل. ثم أخذت هذه الآلهة بالتناسل فولد لآبسو و تعامة إلهان جديدان هما “لخمو” و “لخامو” و هذان بدورهما أنجبا “انشار” و”كيشار” اللذين فاقا ابويهما قوة و منعة.
و بعد سنوات عديدة ولد لأنشار و كيشار ابنا سمياه “آنو” و هو الذي صار فيما بعد الهاً للسماء. و آنو بدوره أنجب “أنكي” أو أيا ، و هو إله الحكمة و الفطنة ، والذي غدا فيما بعد إله المياه العذبة الباطنية. و قد بلغ ايا حداً من القوة و الهيبة ، جعله يسود حتى علي آبائه.
و هكذا امتلأت أعماق الإلهة تعامة بالآلهة الجديدة المليئة بالشباب و الحيوية ، و التي كانت في فعالية دائمة و حركة دائبة ، مما غير الحالة السابقة و أحدث وضعاً جديداً ، لم تألفه آلهة السكون البدئية ، التي عكرت صفوها الحركة ، و أقلقت سكونها الأزلي. حاولت الآلهة البدئية السيطرة علي الموقف و استيعاب نشاط الآلهة الجديدة لكن عبثاً ، الأمر الذي دفعها إلي اللجوء للعنف . فقام آبسو بوضع خطة لإبادة النسل الجديد و العودة للنوم مرة أخرى . و باشر بتنفيذ خطته رغم معارضة تعامة التي مازالت تكن بعض عواطف الأمومة.
لدي سماعهم بمخططات آبسو ، خافت الآلهة الشباب و اضطربوا. و لم يخلصهم من حيرتهم سوي أشدهم و أعقلهم ، الإله ايا ، الذي ضرب حلقة سحرية حول رفاقه تحميهم من بطش آبائهم ، ثم صنع تعويذة سحرية ألقاها علي آبسو الذي راح في سبات عميق. و فيما هو نائم ، قام ايا بنزع العمامة الملكية عن رأس آبسو، و وضعها علي رأسه رمزاً لسلطانه الجديد. كما نزع عن آبسو أيضاً اللقب الإلهي و أسبغه علي نفسه ، ثم ذبحه و بنى فوقه مسكناً لنفسه. كما أنقض علي ممو (الضباب المنتشر فوق المياه الأولى) المعاضد لأبسو فسحقه و خرم أنفه بحبل يجره وراءه أينما ذهب. و منذ ذلك الوقت صار إيا إلها للماء العذب يدفع به إلي سطح الأرض بمقدار ، و يتحكم به بمقدار ، و هو الذي يعطي الأنهار و الجداول و البحيرات ماءها العذب. و هو الذي يفجر الأرض عيوناً من مسكنه الباطني. و منذ ذلك الوقت أيضاً يُشاهَد ممو (الضباب) فوق مياه الأنهار و البحيرات لأن ايا قد ربطه بحبل فهو موثق به إلي الأبد.
بعد هذه الأحداث الجسام ، ولد الإله مردوخ أعظم آلهة بابل ، الذي أنقذهم مرة أخري من بطش الآلهة القديمة ، و رفع نفسه سيداً علي المجمع المقدس. و كيف لا و هو ابن ايا(انكي) الذي فاق اباه قوة و حكمة و بطشاً. و كما كان الإنقاذ الأول علي يد الأب انكي ، كذلك سيكون الإنقاذ الثاني علي يد الابن الشاب مردوخ . فتعامة ( المياه المالحه) التي تركت زوجها آبسو لمصيره المحزن دون أن تهرع لمساعدته و هو يُذبح علي أيدي الآلهة الصغيرة تجد نفسها الآن مقتنعة بضرورة السير علي نفس الطريق لأن الآلهة الصغيرة لم تغير مسلكها، بل زادها انتصارها ثقة و تصميماً علي أسلوبها في الحياة. و هنا اجتمعت الآلهة القديمة عند تعامة و حرضتها علي حرب اولئك المتمردين علي التقاليد الكونية فوافقت و شرعت بتجهيز جيش عرم قوامه أحد عشر نوعاً من الكائنات الغريبة التي أنجبتها خصيصاً لساعة الصدام ، أفاع و زواحف و تنانين هائلة و حشرات عملاقة ، جعلت عليها الإله “كينغو” قائداً ، بعد أن اختارته زوجاً لها ، و علقت علي صدره ألواح القدر.
علم الفريق الآخر بما تخطط له تعامة فاجتمعوا خائفين قلقين ، فأرسلوا الإله ايا الذي أنقذهم في المرة الأولى ، عسى أن ينقذهم في المرة الثانية.
و لكن ايا عاد مذعوراً مما رأي ، فأرسلوا آنو الذي مضي و عاد في حالة هلع شديد.
اسقط في يد الجميع و أطرقوا حائرين كل يفكر في مصيره الأسود القريب. و هنا خطر لكبيرهم انشار خاطر جعل أساريره تتهلل إذ تذكر مردوخ ، الفتى القوي العتي ، فأرسل في طلبه حالاً . و عندما مثل بين يديه و علم بسبب دعوته , أعلن عن استعداده للقاء تعامة و جيشها بشرط الموافقة علي إعطاءه امتيازات و سلطات استثنائية. فكان له ما أراد. و جلسوا جميعاً حول مائدة الشراب و قد أطمأنت قلوبهم لقيادة الإله الشاب.
أعطت الآلهة , للاله مردوخ ، قوة تقرير المصائر، بدلاً من انشار. و أعطوه قوة الكلمة الخالقة. و لكي يمتحنوا قوة كلمته الخالقة ، أتوا بثوب وضعوه في وسطهم و طلبوا من مردوخ أن يأمر بفناء الثوب ، فزال الثوب بكلمة من مردوخ، ثم عاد إلي الوجود بكلمة أخرى . هنا تأكدت الآلهة من أن مردوخ إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون.
فأقاموا له عرشاً يليق بإلوهيته ، ثم أعلوه سيداً عليهم جميعاً ، ثم أسلموه الطريق إلي تعامة. و قبل أن يمضي صنع لنفسه قوساً و جعبة و سهاماً و هراوة ، كما صنع شبكة هائلة ، أمر الرياح الأربعة أن تمسكها من أطرافها. ملأ جسمه باللهب الحارق ، و أرسل البرق أمامه ، يشق له الطريق . دفع أمامه الأعاصير العاتية و أطلق طوفان المياه . و انقض طائراً بعربته الإلهية و هي العاصفة الرهيبة التي لا تُصد، منطلقاً نحو تعامة ، و الآلهة تتدافع من حوله تشهد مشهداً عجيباً.
عندما التقي الجمعان طلب مردوخ قتالاً منفرداً مع تعامة ، فوافقت عليه ، و دخل الاثنان حالاً في صراع مميت. و بعد فاصل قصير نشر مردوخ شبكته و رماها فوق تعامة محمولة من قبل الرياح ، و عندما فتحت فمها لالتهامه دفع في بطنها الرياح الشيطانية الصاخبة فانتفخت و امتنع عليها الحراك. و هنا أطلق مردوخ الرب سهامه واحداً تغلغل في حشاها و شطر قلبها. و عندما تهاوت علي الأرض أجهز علي حياتها ، ثم ألتفت إلي زوجها و قائد جيشها “كينغو” فرماه في الأصفاد ، و سلبه ألواح الأقدار و علّقها علي صدره. و هنا تمزق جيش تعامة شر تمزيق ، و فر معظمه يطلب نجاة لنفسه ، لكن مردوخ طاردهم ،فقتل من قتل ، و أسر من أسر.
بعد هذا الانتصار المؤزر على قوى السكون و السلب و الفوضى ، التفت مردوخ إلي بناء الكون و تنظيمه و إخراجه من حالته الهيولية الأولى ،الى إلحالة النظام و الترتيب، حالة الحركة و الفعالية و الحضارة.
عاد مردوخ إلي جثة تعامة يتأملها ، ثم أمسك بها و شقها شقين ، رفع النصف الأول فصار سماء و سوى النصف الثاني فصار أرضاً . ثم ألتفت بعد ذلك إلي باقي عمليات الخلق . فخلق النجوم محطات راحة للآلهة . و صنع الشمس و القمر و حدد لهما مساريهما . ثم خلق الإنسان من دماء الإله السجين كنغو ، كما خلق الحيوان و النبات. و نظم الآلهة في فريقين ، جعل الفريق الأول في السماء و هم الأنوناكي ، والثاني في الأرض و هم الإيجيجي.
بعد الانتهاء من عملية الخلق يجتمع مردوخ بجميع الآلهة و يحتفلون بتتويجه سيداً للكون. بنوا مدينة هي بابل ، و رفعوا لها في وسطها معبداً تناطح ذروته السحاب هو معبد الإيزاجيلا . و في الاحتفال المهيب أعلنوا أسماء مردوخ الخمسين.
ما يثير الاستغراب __ اننا لو قرأنا كتاب التوراه سنجد قصه الخلق تماثل تماما قصه اينوما ايليش ( قصه الخلق البابليه ) مع بعض الاضافات و الحذف !!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

( المومس الفاضلة ) تثير ضجة في الشارع المصري

أكتوبر 11, 2023

(فارس بلا جواد) محتال أم فارس

أكتوبر 11, 2023

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *