عن الكتابة الرّوائيّة والشّعريّة أيضًا وأيضًا

كتب : هوشنك أوسي

 

سألني أحدهم: “استغرقت في كتابة رواية “حفلة أوهام مفتوحة من 7/9/2017 إلى 13/5/2018. ألا أعتقد أنك تسرَّعت في نشرها؟ فما كان منّي إلاَّ أن أجبته بالتالي: الجنينُ، حين يكتمل، ينبغي أن يخرج، لأن الحياة في انتظارهِ. وأيُّ تأخِّرٍ في الولادة، ربّما يشكِّلُ خطرًا يهدد حياة الجنين والأمّ معًا. ذلك أن الحياةَ لن تنتظرهُ طويلاً. وكذا حال الرّواية والقصيدة. هناك فهمٌ مغلوط، بحكمِ التّداول والشّيوع، أخذ صِفة القانون أو النّاموس، مفاده؛ خيرُ الرّوايات، ما أحذت من أعمار كتَّابها، وكاتباتها، أشهرَ وسنوات! هناك من يتفاخرُ أن هذه الرّواية أو تلك، أخذت من عمرهِ/ا خمس أو ست أو عشر سنوات! كيف ذلك؟ إذا كانت تشكيل إنسان (جنين) يتطلَّب في أبعد تقدير تسعة أشهر، وأحيانًا ثمانية أو سبعة، فكيف لرواية أن تأخذ كلّ ذلك القدر من السّنوات؟! هناك مبالغة شديدة في الأمر. حتّى لو كتبتُ رواية في ثلاثة أشهر، وكانت من الجودة والقوّة التي تجعلها تفوز بجائزة “نوبل”، هل ستعيد الجائزة، الأشهر الثّلاث التي فاتت من عمري، وصرفتها في كتابة تلك الرّواية؟!

مقصدي مما سلف؛ لا العمل الرّوائي المكتوب في ستة أشهر، من التسرّع والهزال والضّعف، بالضّرورة. ولا العملُ المكتوب في ست سنوات، مِن الجودة والكياسة والمتانة والقوّة والعمق والأناة، بالضّرورة. مدّة كتابة الرّواية، ليس الميزان الدّقيق والصّائب، لقياس جودتها وفرادتها وتميّزها عن غيرها. الذّهب له ميزانه، والحديد أو الخرسانة الاسمنيّة لهما ميزانهما. وهذا ليس تقليلاً من شأن الحديد والخرسانة، أبدًا. وربّما يقول قائل: الطّبيعة تجتهد وتتعب وتعاني مئات آلاف السّنوات، كي تنتج لنا بضع غرامات من الكربون الصّافي النّفي؛ الماس. هذا صحيح. لكن الصّحيح أيضًا أنّها الطّبيعة، وليست كاتبً أو كاتبة رواية، لا يشكّل عمرهما مثقال ذرّة من عمر الطّبيعة.

القرآن، كلامُ الله، تنزّل على نبيّه، عبر وسيط؛ جبريل، المدّة التي استغرقت فيها نزول سوره وآياته، نحو 23 سنة. إذا حسبنا مدد الانقطاع، أو الفواصل الزّمنيّة، ربّما تكون المدّة الحقيقيّة لنزوله، أقلّ بكثير جدًّا من ذلك. أضفْ إلى هذا، المدّة التي استغرتقها إعادة تدوين وتجميع القرآن، وما شابها من أخذٍ وردّ، ربّما لا تتجاوز سنتين أو ثلاث على زمن الخليفة عثمان بن عفّان،  ثم يأتي روائي أو روائيّة ويتباهى أو يتفاخر بطول مدّة كتابته لروايته/ا!

يعني؛ “العمر مش بعزقة، علشان أهدرهُ في كتابة رواية تقضم من عمري خمس أو عشرة سنوات” كما يقول المصريون.

 

سؤال الهويّة:

تناولت سؤال الهويّة في روايتي الأولى “وطأة اليقين” بشكل خجول وغير مباشر. لكن في روايتي الثانية “حفلة أوهام مفتوحة” برز هذا السؤال بشكل أكثر قوّةً ووضوحًا. سؤال الهويّة على الصّعيد الوجودي، الذاتي: لماذا أكتب؟ لمَن؟ وكيف أخلق لكتابة هويّة خاصّة واضحة لكتابتي، وسط هذه الحشود التي لا ولن تنتهي من الكتابات؟ وكذلك سؤال الهويّة على الصعيد الجماعي، والانتماء إلى أرومة ما. وهو سؤال ليس محصورًا في الجماعات القوميّة والدّينيّة والطّائفيّة الشّرق أوسطيّة فقط، بل متداولٌ في الغرب أيضًا. يعني أنه أحد أبرز أسئلة الإنسان، بصرف النّظر عن التّموضع الجغرافي، يعبّرُ عن أزمة ومشكلة حقيقيّة مزمنة، وليس “وهمًا”، كما يحاول البعض وصفه.

الهويّة ليست مرضًا نخشاهُ، ونحتاط له، ومنه. وهي ليست وهمًا أيضًا، ولا عيبًا يكمن تسجيله على الكتابة الأدبيّة؛ شعرًا وروايًة وقصًّة. عندما تتعرّض الهويّة للقمع والاضطهاد والصّهر، من قبل هويّة أخرى، تحت ذريعة دينيّة (كلّنا مسلمون أو مسيحيّون) أو قوميّة (كلّنا عرب أو أكراد، أو أمازيغ…) وقتذاك، ستحاول الهويّات المقموعة الدفاع عن نفسها، وممانعةِ الإنكار أو الطّمس والصّهر والإذابة. ويأتي ذلك عبر الكتابات الإبداعيّة أيضًا.

النظر إلى الهويّة كمرض، هو بحدّ ذاتهِ؛ مرض أو ما يشبهه. والنظر إليها كوهم، هو أيضًا وهم. تتحوّل الهويّة إلى مرض، حين تصبحُ قامعة وصاهرة للهويّات الأخرى، ونابذة لها. ومتّى تكون الهويّة مشوبة بالوهم، حين تصاب بالغطرسة ونزعة التفوّق والاستعلاء، والتكبّر والتجبّر والاستقواء، وتمارس القهر والصّهر على الهويّات الضّعيفة. معالجة هكذا مظاهر، هو جزء مما حاولتُ تقديمه في جزء من رواياتي. طرح أسئلة ومشاكل الهويّة، في نصّ روائي، لا يعني الشفاء من مشاكل وأسئلة وأزمة الهويّة.

هناك من الأدباء والكُتَّاب العرب من يتحسّسون، حين يتمّ التعريف بي على أنني كردي سوري، ويريدون أن أقدّم نفسي سوري، أو سوري كردي. وهناك من تعامل مع كرديتي كنقيصة، بشكل عنصري، هاجمني عليها، واستصغرني بها! وهناك من يجد في كرديّتي وسوريّتي قيمة مضافة إليهم وإلى أوطانهم. وهناك من الأدباء والكتّاب الكرد، من يسلبونني كرديّتي، لأنني لا أجعل منها الشُّرفة الواحدة الوحيدة التي ينبغي عليّ أن أطلّها منها على العالم. يريدون لي أن أكون رهين وأسير وحبيس هويتي القوميّة. وهذا ما أرفضه لنفسي، ولا ولم أفرضه على أحد.

في شهر تموز 2019، كتبت مقالات حملت عنوان “كاتب كردي سوري من فلسطين”[1]، وقبلها في نيسان 2019، كتبت مقالاً بعنوان “أنا سوداني من الجزائر”[2] دعمًا للحراك الجماهيري في البلدين.

ومقصدي: أنا فخور بكرديّتي، وبسوريّتي، وببلجيكيّتي، ومصريتي، وفلسطينيتي، وعراقيتي…، وهويّتي مركّبة، تشبه رواياتي المركّبة. أنا راضٍ عن هذا الوصف: “كردي سوري” تمام الرّضا، ومن يعيبون على النّاس الإفصاح عن هويّاتهم الحقيقيّة، أو يحاولون إلقاء الشكّ والشّبهة عليهم، فالعيب فيهم، عليهم مراجعة أنفسهم وفهمهم المشوّه والمشبوه لمفهوم الهويّة الحضاريّة الموازيكيّة.

هويّتي منفتحة على هويتّكم وهويّة الآخرين. هويتي مرنة، وليست صلبة متزمّتة، باغية على الهويّات الأخرى، أو نابذة لها. وهذا واضح في سلوكي الأدبي، وضمن نصوصي الشعريّة والرّوائيّة، وتعاملي مع محيطي القريب والبعيد.

 

الرّواية والشِّعر:

جميعُ شخصيّات رّواياتي قريبة منّي. ذلك أنني بثثت في كلّ شخصيّة، شيئًا من أفكاري وتناقضاتي، وتناقضات المحيطين بي. وفي الرّواية، لا يمكن الإيجاز، حيث يستوجب الإسهاب، بخلاف الشّعر، الذي لا يمكن فيه الإسهاب، حيث يفترض حضور البلاغة والتكثيف والإيجاز. حين أنوي دخول أيّة رواية، أدخلها كشاعر، ينوي أن يروي، وليس هدفه الاقتصاد في الكلام والتقشّف، أو شعرنة السّرد. طبعًا، الرّواية، لا تفتح بابًا كبيرًا للحشو والثّرثرة، التي لا طائل منهما.

هناك، من فشل في كتابة الشّعر، واتّجه إلى كتابة الرّواية. وهناك من نجح في كتابة الشّعر، واتّجه إلى كتابة الرّواية، ونجح فيها أيضًا. إمكانيّة واحتمال أن يصبح الشّاعر روائيًّا، جدْ واردة. بينما صعب أن يتّجه الرّوائي إلى كتابة الشّعر، ويبدع فيه، إن لم يكن هو في الأصل، شاعرًا. الرّواية قرار وتخطيط وفعلٌ عمد، والشّعر لحظة وحالة، لا تعمّد فيهما.

أمّا عن زمن الشّعر، فلن ينتهي إلى قيام الساعة. حتّى الآن، نحن نقرأ محلمة “جلجاميش”، و”الإلياذة”، والمعلّقات، وسنبقى نقرأها حتّى بعد 2022 سنة أخرى.

في روايتي الأربع المنشورة، هناك شخصيّات شعراء، وكذلك نصوصُ شعريّة مستقلّة، مدرجة ضمن السّرد. هذه الرّواية، هي للردّ على المقولة الخرقاء التي تفيد أن زمن الشّعر ولّى، بحلول زمن الرّواية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

انهيار عرش الكتاب الورقي أمام نظيره الالكتروني..

أغسطس 11, 2022

كقلم رصاص، ينسى أن يموت

أغسطس 11, 2022

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *